في زاوية ما من مجلس عائلي، يجلس “الطيب” الأصلي، ممسكًا بكوب شاي يغلي في استحياء، وينظر بحسرة إلى حفيده الذي لا يرفع عينيه عن الآيباد، بينما يُسمع من خلفه صوته الخافت:
“إحنا كنا نلعب بسيخ الشوي ونتونس…”
يبدأ الحنين بالتسلل، وتُفتَح بوابة الزمن:
جيل الطيبين، أصحاب الذكريات الجماعية مع البقالة أبو ريال، وتلفزيون أبو قفل، وكرة الشراب المصنوعة من جوارب متقاعدة.
جيل تربى على مقولة: “خلّك رجال!”، و”ما في شي اسمه ملل، روح العب بالتراب”.
وفي الجهة المقابلة، جيل الآيباد، حيث الطفل يتحدث ثلاث لغات، ويطلب الوجبة بتطبيق، ويعتقد أن النملة شخصيّة أنمي تُقاتل الأشرار.
هنا تبدأ المعركة، أو لنقل “التحقيق الاجتماعي الكبير”: من الذي فعلاً فقد البوصلة؟ هل هو جيل الطيبين الذي يرى كل جديد تهديدًا؟ أم جيل الآيباد الذي يظن أن كل شيء قابل للمسح بإصبع؟
“طفولتي فيها شوك، طفولتك فيها شاحن”
في طفولتي، كنا نلعب في الحوش، جنب شجرة الليمون، وإحنا نحاول نركب العجلة اللي الكفر حقها ناقص هوا من 1997، ونتفادى في نفس الوقت الشوك اللي طالع من تحت البلاط كأنه نظام أمان مطوّر من وزارة الدفاع.
كنا نطيح، ونتعور، وننقز من فوق السور ونتعلق في أسلاكه، ونرجع البيت ودمنا سايل وأهلنا يقولون:
“أحسن! خليها تربيك!”
ما كان في شيء اسمه “آيباد”، ولا “وقت شاشة”، كنا نعرف إن الشمس راحت يوم نبدأ ما نشوف الكورة، أو تسمع صرخة من الوالدة تقول:
“ادخل يا واد ترا ناموا أهل الحارة!”
أما الآن؟
طفلك لو شاف نملة، صرخ كأنها ديناصور من كوكب المريخ.
لو راح عليه شحن الآيباد، يجيك وجهه كأنك سحبت منه إرث جدّه.
الطفولة حالياً عبارة عن شاحن متنقّل، جلسة مكيفة، وشكاوى من سرعة الواي فاي.
جيلنا كان إذا عطشان يشرب من الليّ. جيلهم يرفض يشرب موية لو الغطاء مافيه ختم أصلي من المصنع!
إحنا كنا نحسب “الترفيه” هو تلبيس قناني البيبسي بخرقة ونقول عنها “عرسان”، وهم ترفيههم 4K، صوت محيطي، وشخصية كرتونية عندها حساب تويتر وتتفاعل مع المتابعين.
المشكلة؟
مو فيهم، ولا فينا.
المشكلة إننا نظن إن المعاناة شرط أساسي لتكون الحياة “أصيلة”.
التراب كمصدر ترفيه رسمي
في زمنٍ لم تكن فيه كلمة “إنترنت” تُنطق بدون أن يرتبك اللسان، كان التراب هو نتفليكسنا، وهو التيك توك، وهو البلايستيشن، وهو كائنٌ متعدد الاستخدامات ومفتوح المصدر، بدون اشتراكات ولا إعلانات.
كنا نحفر في الأرض وكأننا نبحث عن كنز مدفون، أو نرسم خطوطًا في الرمل ونعلنها “ملعبًا رسميًا”، وفي بعض الحالات المتطورة جدًا: كنا نسوي من التراب كيك ونقنع جيراننا إنه يصلح زواج باربي على كين.
كنا نرجع البيت وملابسنا لونها ما عاد يدل على أصل القماش، ويبدأ التحقيق:
“وين كنت؟ ليه شكلك كذا؟!”
فنرد بكل فخر:
“كنا نلعب بالتراب!”
وترد أمهاتنا بحكمة شعبية محفوظة:
“خله يقوي المناعة…”
ولا أحد كان يسأل عن الجراثيم أو الفطريات، لأننا أصلاً كنا نعتقد أن البرد يجينا من المكيف، والإنفلونزا من الحسد.
أما اليوم، فلو شاف الطفل ذرة تراب على إصبعه، يبكي كأنه تعرض لهجوم بيولوجي.
ولو لمس الأرض، تجي الأم تركض بكيت تعقيم فيه أكثر من محتوى شنطة الإسعاف في الهلال الأحمر.
التراب اليوم صار عدوًا رسميًا للطفولة الحديثة.
حديقة البيت؟ تتنظف كل يومين.
الطلعة؟ لازم يكون فيها جلسة مبلطة ومعقمة وفيها Wi-Fi.
اللعب؟ فقط إذا في ألعاب بلاستيكية مكتوب عليها “آمنة للأطفال من سن 3 سنوات وما فوق”.
لكن يا صاحبي، إحنا لعبنا بـ”سلك خياطة” و”سيخ كباب”، وطلعنا رجال… أو على الأقل، طلعنا بذاكرة ممتلئة ومعدة تقاوم كل شيء ما عدا اللاكتوز.